إن حب الأوطان حبٌ فِطري، تدعو إليه العقيدة، وتؤيده السُنة، وتحث عليه مكارم الأخلاق، لذا نجد أن المسلم الحقيقي يكون محباً أشد ما يكون الحب لوطنه، وفيّاً أشد ما يكون الوفاء له، مستعدا لتقديم كل غالٍ ونفيس من أجل رفعة وازدهار أمته.
حول قضية حب الوطن يقول الداعية الشيخ أشرف مطيع آل موسى أن محبة الأوطان هي من صميم الإيمان، وأن أعظم مثال ينبغي أن يُحتذى به في حب الوطن والولاء له هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأدلة على ذلك كثيرة وعديدة، لعل أكثرها ذِكرا في السيرة ما رُوي عن ذلك اليوم العصيب، الذي بلغ فيه الحزن منتهاه في قلب الحبيب المصطفى صلوات الله وسلامه عليه، حين وقف ينظر إلى جبال مكة وشعابها، إلى معقل صباه وموطنه الذي نشأ في ربوعه، فقال يخاطب مكة وقد أزف الرحيل: «وَاَللَّهِ إنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إلَى اللَّهِ، وَلَوْلَا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ» [رواه أحمد وابن ماجه]، بهذه المشاعر الجياشة خرج النبي من مكة، أحب بقاع الأرض إلى قلبه، مهاجرا إلى المدينة، وقد بلغ الشوق مبلغه في قلبه، فيواسيه ربه بقرآن يتلى إلى يوم القيامة: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَىٰ مَعَادٍ} [القصص:٨٥]، يقول ابن عباس رضي الله عنه في تفسير الآية أن الله تبارك وتعالى يبشر نبيه أنه سيرده إلى مكة بعد حين.
هكذا هو حب الوطن، الذي علمنا إياه رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، هو ذلك الشعور بالانتماء الذي يغرسه الإسلام في النفوس، تلك الطاقة الجبارة التي ينبغي توجيهها بشكل سليم، لأنها تعتبر الدافع الأول لحماية الوطن، والوقوف في وجه كل معتدِ يحاول الإضرار بمصالحه.
لكن محبة الأوطان ليست بالشعارات والكلمات الرنانة، وإنما تكون بالبناء والعمل والإخلاص، فالوطن يحتاج لأبناء مخلصين، صالحين ومصلحين، يحتاج لجهد وبذل يترجم تلك المحبة إلى واقع ملموس، ولننظر في هذا الصدد إلى خطوات بناء وتأسيس دولة الإسلام؛ حين دخل النبي إلى المدينة، كان أول ما بنى في الدولة الجديدة هو المسجد، ليكون منارة للتوحيد وللعلم والإيمان، وليُعلّم الناس أن أساس كل ازدهار وعز وتمكين هو في إقامة شرع الله، ثم بعد ذلك بدأ النبي القائد في إصلاح أحوال المجتمع، فنبذ كافة مظاهر الطائفية والتعصب والحزبية، وأقام ميزان العدل والمساواة وفق المبدأ الرباني: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:١٣]، هكذا علمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن بناء الأوطان يكون بقبول الآخر، وبالاعتراف بأن لكل فرد في المجتمع حقوق لا تُنتَقص، وعليه واجبات لا ينبغي التهاون في شأنها.
وهكذا علمنا نبي الرحمة أن حب الوطن من الفطرة ومن صميم الدين، فلا يزايدن أحد على أهل الدين في قضية حب الأوطان.
ومن منطلق هذا الشعور الغامر بالإعزاز والانتماء الذي يشعر به كل مواطن تجاه وطنه، يوجّه فضيلة الشيخ النصيحة لأمة الإسلام بأن يحافظوا على رباط الأخوة، مهما اختلفت وجهات النظر فيما بينهم، فرباط الأخوة أعلى وأكبر من أي خلاف، كما أن حب الوطن يقتضي أن يتكاتف الجميع للدفاع عنه ضد كل طامع أو متربص، وما أكثر المتربصين الذين ينتظرون كل فتنة ليميلوا على أوطاننا ميلة واحدة.
من أجل هذا ينبغي أن يبذل كل منا وسعه في أن يحافظ على نعمة الوطن، باحترام قوانينه ونظامه العام، وإعمار أرضه، واستثمار مقدراته، وأن يحمد كل منا ربه عز وجل على نعمة الأمن والأمان التي يرفل فيها في وطنه، وعلى كونه يعبد الله في حرية وأمان وطمأنينة، دون خوف من اضطهاد أو مشقة.