خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 4 من ذي القعدة 1446 هـ - الموافق 2 / 5 / 2025م
مُرَاعَاةُ الْمَشَاعِرِ وَالْأَحَاسِيسِ
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيماً كَثِيرًا. )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ( [آل عمران:102]، )يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا( [النساء:1]، )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا( [الأحزاب:70-71].
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَيُّهَا الْـمُسْلِمُونَ:
إِنَّ الْإِسْلَامَ جَاءَ لِيُهَذِّبَ الْأَخْلَاقَ وَيُقَوِّمَ السُّلُوكَ وَالطِّبَاعَ، فَدَعَا لِكُلِّ خَصْلَةٍ كَرِيمَةٍ، وَرَغَّبَ فِي كُلِّ خَلَّةٍ نَبِيلَةٍ، وَإِنَّ مِنْ مَحَاسِنِ شَرِيعَتِنَا الْغَرَّاءِ: أَنَّهَا رَاعَتِ الْمَشَاعِرَ وَالْأَحَاسِيسَ، فَمَنَعَتْ مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَجْرَحَهَا أَوْ يُحْرِجَهَا؛ فَالنَّفْسُ الْبَشَرِيَّةُ تَأْنَسُ بِمَنْ كَانَ حَيَّ الْمَشَاعِرِ، مُرْهَفَ الْحِسِّ، وَتَنْفِرُ مِنْ جَافِّ الْمَشَاعِرِ مُتَبَلِّدِ الْإِحْسَاسِ، يَرْمِي الْكَلَامَ عَلَى عَوَاهِنِهِ، وَلَا يَفْطَنُ لِمُحَادِثِهِ وَمُجَالِسِهِ.
يَقُولُ ابْنُ الْمُبَارَكِ:
إِذَا صَاحَبْتَ قَوْمًا أَهْلَ وِدٍّ فَكُنْ لَهُمُ كَذِي الرَّحِمِ الشَّفِيقِ
وَلَا تَأْخُــذْ بِزَلَّــةِ كُـلِّ قَوْمٍ فَتَبْقَـى فِي الزَّمَانِ بِلَا رَفِيـقِ
أَيُّهَا الْـمُسْلِمُونَ:
إِنَّ دِينَنَا الْحَنِيفَ قَدْ حَثَّ عَلَى الْعِنَايَةِ بِمَشَاعِرِ الْآخَرِينَ، وَالرِّفْقِ بِأَحَاسِيسِهِمْ، وَمِنْ ذَلِكَ: أَنَّ الشَّرْعَ نَهَى أَنْ يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الثَّالِثِ، وَالتَّنَاجِي: هُوَ الْكَلَامُ الْخَفِيُّ الَّذِي يَكُونُ بَيْنَ اثْنَيْنِ؛ فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا كُنْتُمْ ثَلَاثَةً فَلَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الْآخَرِ، حَتَّى تَخْتَلِطُوا بِالنَّاسِ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُحْزِنَهُ» [أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ]، فَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً، أَرْبَعَةً فَأَكْثَرَ فَلَا مَانِعَ حِينَئِذٍ مِنْ أَنْ يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الْآخَرِينَ لِانْتِفَاءِ الْعِلَّةِ. وَمِنْ ذَلِكَ: نَهْيُ الشَّارِعِ عَنْ إِقَامَةِ الرَّجُلِ مِنْ مَجْلِسِهِ مُرَاعَاةً لِشُعُورِ مَنْ سَبَقَ إِلَى الْمَكَانِ لِكَوْنِهِ صَاحِبَ الْحَقِّ؛ فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يُقِيمُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ مِنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ يَجْلِسُ فِيهِ» [أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ] وَزَادَ «وَلَكِنْ تَفَسَّحُوا وَتَوَسَّعُوا».
أَيُّهَا الْـمُؤْمِنُونَ:
إِنَّ نَبِيَّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ مَلَكَ زِمَامَ الْأَخْلَاقِ النَّبِيلَةِ، وَاصْطَبَغَ بِكُلِّ سَجِيَّةٍ كَرِيمَةٍ؛ فَقَدْ كَانَ يُرَاعِي الْأَحَاسِيسَ وَالْمَشَاعِرَ، وَيُدَارِي السَّوَانِحَ وَالْخَوَاطِرَ؛ فَعَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَفَرٍ مِنْ قَوْمِي، فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ عِشْرِينَ لَيْلَةً، وَكَانَ رَحِيمًا رَفِيقًا، فَلَمَّا رَأَى شَوْقَنَا إِلَى أَهَالِينَا، قَالَ: «ارْجِعُوا فَكُونُوا فِيهِمْ، وَعَلِّمُوهُمْ، وَصَلُّوا، فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ، وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ» [أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ]، وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنِّي لَأَقُومُ فِي الصَّلَاةِ أُرِيدُ أَنْ أُطَوِّلَ فِيهَا، فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ، فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلَاتِي كَرَاهِيَةَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمِّهِ» [أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ]، وَعَنِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ اللَّيْثِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِمَارًا وَحْشِيًّا، وَهُوَ بِالْأَبْوَاءِ، أَوْ بِوَدَّانَ، فَرَدَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا فِي وَجْهِهِ قَالَ: «إِنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إِلَّا أَنَّا حُرُمٌ» أَيْ: مُحْرِمُونَ. [أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ]، بَلْ إِنَّ مُرَاعَاتَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمَشَاعِرِ وَالْأَحَاسِيسِ لَمْ تَتَوَقَّفْ عَلَى الْكِبَارِ فَحَسْبُ بَلْ حَتَّى عَلَى الْأَطْفَالِ وَالصِّغَارِ؛ فَعَنِ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إِحْدَى صَلَاتَيِ الْعَشِيِّ، الظُّهْرِ - أَوِ الْعَصْرِ - وَهُوَ حَامِلٌ الْحَسَنَ - أَوِ الْحُسَيْنَ - فَتَقَدَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَضَعَهُ، ثُمَّ كَبَّرَ لِلصَّلَاةِ، فَصَلَّى، فَسَجَدَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ صَلَاتِهِ سَجْدَةً أَطَالَهَا فَقَالَ: إِنِّي رَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا الصَّبِيُّ عَلَى ظَهْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ سَاجِدٌ، فَرَجَعْتُ فِي سُجُودِي، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَاةَ قَالَ النَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ سَجَدْتَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ صَلَاتِكَ هَذِهِ سَجْدَةً قَدْ أَطَلْتَهَا، فَظَنَنَّا أَنَّهُ قَدْ حَدَثَ أَمْرٌ، أَوْ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْكَ، قَالَ: «فَكُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ، وَلَكِنَّ ابْنِي ارْتَحَلَنِي، فَكَرِهْتُ أَنْ أُعَجِّلَهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهُ» [أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ].
زَانَتْكَ فِي الْخُلُقِ الْعَظِيمِ شَمَائِلٌ يُغْرَى بِهِنَّ وَيُولَعُ الْكُـرَمَــاءُ
بِـكَ بَشَّــرَ اللَّهُ السَّمَاءَ فَــــزُيِّنَتْ وَتَضَوَّعَتْ مِسْكًا بِكَ الْغَبْرَاءُ
أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوَانِهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَإِخْوَانِهِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ- فَإِنَّ فِي تَقْوَاهُ سَعَادَةً لِلْعِبَادِ، وَهِيَ خَيْرُ مَا يُتَزَوَّدُ بِهِ لِيَوْمِ الْمَعَادِ؛ ]يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ[ [الحشر:18].
أَيُّهَا الْـمُؤْمِنُونَ:
إِنَّ مِمَّا يَنْبَغِي مُرَاعَاةُ مَشَاعِرِهِ عَلَى وَجْهٍ خَاصٍّ مَنِ ابْتُلِيَ بِمَرَضٍ أَوْ عِلَّةٍ؛ فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تُدِيمُوا النَّظَرَ إِلَى الْمَجْذُومِينَ» [أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ]، فَلَا يُحِدُّ الرَّجُلُ النَّظَرَ إِلَى أَصْحَابِ الْعِلَلِ بَلْ يَصْرِفُ بَصَرَهُ حَتَّى لَا يُؤْذِيَ نَفْسِيَّتَهُ وَمَشَاعِرَهُ، بَلِ الدُّعَاءُ الْمَشْهُورُ الَّذِي يُقَالُ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْمُبْتَلَى، وَهُوَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَافَانِي مِمَّا ابْتَلَاكَ بِهِ وَفَضَّلَنِي عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقَ تَفْضِيلًا، قَالَ الْعُلَمَاءُ: يُقَالُ بِصَوْتٍ خَافِتٍ مُرَاعَاةً لِخَاطِرِهِ. وَمِمَّنْ تَنْبَغِي مُرَاعَاةُ خَوَاطِرِهِمُ: الْخَدَمُ وَالْعُمَّالُ؛ فَعَنْ أَبَي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا أَتَى أَحَدَكُمْ خَادِمُهُ بِطَعَامِهِ، فَإِنْ لَمْ يُجْلِسْهُ مَعَهُ، فَلْيُنَاوِلْهُ أُكْلَةً أَوْ أُكْلَتَيْنِ، أَوْ لُقْمَةً أَوْ لُقْمَتَيْنِ، فَإِنَّهُ وَلِيَ حَرَّهُ وَعِلَاجَهُ» [أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ]. وَمَعْنَى (وَلِيَ حَرَّهُ وَعِلَاجَهُ) أَيْ: قَامَ عَلَى طَبْخِهِ وَتَهْيِئَتِهِ، فَرُبَّمَا تَعَلَّقَتْ نَفْسُهُ بِهِ.
أَيُّهَا الْمُبَارَكُونَ:
إِنَّ مُرَاعَاةَ الْمَشَاعِرِ مِمَّا يَزِيدُ الْمَوَدَّةَ وَالْوِئَامَ، وَيُنَمِّي الْأُلْفَةَ وَالِانْسِجَامَ؛ فَصَاحِبُ الْمَوْقِفِ النَّبِيلِ وَالْحِسِّ الرَّفِيعِ لَا يُنْسَى عَلَى مَدَارِ الْأَعْوَامِ وَكَرِّ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ؛ قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي حَدِيثِ تَوْبَتِهِ الْمَشْهُورِ: (وَانْطَلَقْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَتَلَقَّانِي النَّاسُ فَوْجًا فَوْجًا، يُهَنُّونِي بِالتَّوْبَةِ، يَقُولُونَ: لِتَهْنِكَ تَوْبَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ، قَالَ كَعْبٌ: حَتَّى دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ، حَوْلَهُ النَّاسُ، فَقَامَ إِلَيَّ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ يُهَرْوِلُ حَتَّى صَافَحَنِي وَهَنَّانِي، وَاللَّهِ مَا قَامَ إِلَيَّ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ غَيْرَهُ، وَلَا أَنْسَاهَا لِطَلْحَةَ) [أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ]. بَلْ قَدْ يَرْتَقِي الْإِنْسَانُ بِسُمُوِّ أَحَاسِيسِهِ وَأَخْلَاقِهِ وَنُبْلِ مَشَاعِرِهِ وَطِبَاعِهِ حَتَّى يُقَابِلَ الْإِسَاءَةَ بِالْإِحْسَانِ وَالتَّعَسُّفَ بِالْعَفْوِ وَالْغُفْرَانِ؛ قَالَ يُوسُفُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِإِخْوَتِهِ لَمَّا جَاءُوا مُعْتَذِرِينَ؛ ]قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ[ [يوسف:92] فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ مَعَ أَبِيهِمْ طَوَى صَفْحَةَ الْمَاضِي عَلَى بُؤْسِهَا وَشِدَّتِهَا وَقَالَ: ] وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ[ [يوسف:100] وَلَمْ يَقُلْ إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ الْجُبِّ؛ وَقَالَ: ]وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ[ [يوسف:100] أَيْ: مِنَ الْبَادِيَةِ- وَلَمْ يَقُلْ عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ وَالسُّخْرِيَةِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْقَحْطِ وَالْجَدْبِ – وَقَالَ: ]مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي[ [يوسف:100]. وَلَمْ يَقُلْ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ إِخْوَتِي- فَجَعَلَ نَفْسَهُ طَرَفًا فِي الذَّنْبِ مَعَ عَدَمِ دُخُولِهِ، فَالْعَبْدُ الْمُوَفَّقُ مَنْ يَقْبَلُ عُذْرَ مَنِ اعْتَذَرَ بِسَلَامَةِ صَدْرٍ وَطَهَارَةِ قَلْبٍ.
اقْبَلْ مَعَاذِيـرَ مَنْ يَأْتِيكَ مُعْتَـذِرًا إِنَّ بَرَّ عِنْدَكَ فِيمَا قَالَ أَوْ فَجَرَا
لَقَدْ أَطَاعَكَ مَنْ يُرْضِيكَ ظَاهِرُهُ وَقَدْ أَجَلَّكَ مَنْ يَعْصِيكَ مُسْتَتِرَا
اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى صَاحِبِ الْوَجْهِ الْأَنْوَرِ، وَالْجَبِينِ الْأَزْهَرِ، مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ الْغُرَرِ، وَمَنْ سَارَ عَلَى هَدْيِهِمْ إِلَى يَوْمِ الْمَحْشَرِ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدِينَا وَلِلْمُسْلِمِينَ؛ الْأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّـتِـينَ، وَاشْفِ مَرْضَانَا وَمَرْضَى الْمُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَأَذِلَّ الشِّرْكَ وَالْمُشْرِكِينَ، وَانْصُرْ عِبَادَكَ الْمُوَحِّدِينَ، وَاصْرِفْ عَنَّا كُلَّ شَرٍّ وَسُوءٍ فِي الدُّنْيَا وَالدِّينِ، اللَّهُمَّ وَفِّقْ أَمِيرَنَا وَوَلِيَّ عَهْدِهِ لِهُدَاكَ، وَاجْعَلْ عَمَلَهُمَا فِي رِضَاكَ، وَأَلْبِسْهُمَا ثَوْبَ الصِّحَّةِ وَالْعَافِيَةِ وَالْإِيمَانِ، يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، اللَّهُمَّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا مُطْمَئِنًّا سَخَاءً رَخَاءً وَسَائِرَ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
لجنة إعداد الخطبة النموذجية لصلاة الجمعة