خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 3 من ربيع الأول 1446 هـ - الموافق 6 / 9 / 2024م
إِيَّاكُمْ وَالْحَسَدَ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ، وَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَصَفِيُّهُ وَخَلِيلُهُ، ذَمَّ الْحَسَدَ وَالْحَاسِدِينَ، وَحَذَّرَ مِنْ شَرِّهِمْ وَعَوَاقِبِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالدِّينِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيماً كَثِيرًا إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَأُوصِيكُمْ - عِبَادَ اللَّهِ - وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللَّهِ الْعَظِيمِ؛ فَإِنَّهُ مَنِ اتَّقَى اللَّهَ وَقَاهُ، وَمَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ كَفَاهُ، وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا؛ ) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ( [الأحزاب: 70- 71].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ:
لَقَدْ خَلَقَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْخَلْقَ، وَقَسَمَ بَيْنَهُمُ الْآجَالَ وَالْأَرْزَاقَ وَالْأَخْلَاقَ؛ فَالْآجَالُ مَحْتُومَةٌ، وَالْأَرْزَاقُ مَقْسُومَةٌ، وَالْأَخْلَاقُ مَحْسُومَةٌ، وَخَلَقَ عَزَّ وَجَلَّ الْإِنْسَانَ مِنْ رُوحٍ وَجَسَدٍ، وَجَعَلَ فِيهِ نَوَازِعَ لِلْخَيْرِ، وَنَوَازِعَ لِلشَّرِّ، وَأَمَرَهُ بِاكْتِسَابِ الْفَضَائِلِ، وَاجْتِنَابِ الرَّذَائِلِ؛ لِتَطْهِيرِ النُّفُوسِ مِنْ آفَاتِهَا، وَتَخْلِيصِ الْقُلُوبِ مِنْ أَوْضَارِهَا وَعِلَّاتِهَا، أَلَا وَإِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْآفَاتِ الْفَاتِكَةِ، وَمِنْ أَخْطَرِ الْأَمْرَاضِ الْخَطِيرَةِ الْمُهْلِكَةِ: دَاءَ الْحَسَدِ، فَهُوَ مَرَضٌ عُضَالٌ، وَدَاءٌ خَطِيرٌ قَتَّالٌ، يَدُلُّ عَلَى الْكَمَدِ وَالشُّؤْمِ، وَيُنْبِئُ عَنِ الدَّنَاءَةِ وَاللُّؤْمِ، وَهُوَ أَوَّلُ ذَنْبٍ عُصِيَ اللَّهُ بِهِ فِي السَّمَاءِ، حِينَمَا امْتَنَعَ إِبْلِيسُ مِنَ السُّجُودِ لِآدَمَ حَسَدًا وَاسْتِكْبَارًا، قَائِلًا: ] أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ( [الأعراف:12]، وَأَوَّلُ ذَنْبٍ عُصِيَ اللَّهُ بِهِ فِي الْأَرْضِ عِنْدَمَا قَتَلَ أَحَدُ ابْنَيْ آدَمَ أَخَاهُ حَسَدًا وَظُلْمًا، ] فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ ( [المائدة: 30]. وَقَدْ نَهَانَا الشَّرْعُ الْكَرِيمُ، عَنْ هَذَا الْخُلُقِ الذَّمِيمِ؛ فَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا -عِبَادَ اللهِ- إِخْوَانًا» [مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ]. وَأَثْنَى عَلَى أَصْحَابِ النُّفُوسِ التَّقِيَّةِ، وَالْقُلُوبِ النَّقِيَّةِ؛ فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ، صَدُوقِ اللِّسَانِ»، قَالُوا: صَدُوقُ اللِّسَانِ نَعْرِفُهُ، فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْبِ؟ قَالَ: «هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ، لَا إِثْمَ فِيهِ، وَلَا بَغْيَ، وَلَا غِلَّ، وَلَا حَسَدَ» [أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ الْعِرَاقِيُّ].
عِبَادَ اللهِ:
إِنَّ الْحَسَدَ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا مَذْمُومٌ، وَهُوَ: كَرَاهَةُ النِّعْمَةِ، وَحُبُّ زَوَالِهَا عَنِ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ، وَثَانِيهِمَا: مَحْمُودٌ، وَهُوَ: تَمَنِّي مِثْلِ النِّعْمَةِ الَّتِي عِنْدَ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَمَنِّي زَوَالِهَا عَنْهُ، وَهِيَ الْغِبْطَةُ. فَالْأَوَّلُ حَرَامٌ بِكُلِّ حَالٍ، إِلَّا نِعْمَةً أَصَابَهَا فَاجِرٌ وَهُوَ يَسْتَعِينُ بِهَا عَلَى مُحَرَّمٍ، فَلَا يَضُرُّ مَحَبَّةُ زَوَالِهَا عَنْهُ مِنْ حَيْثُ هِيَ آلَةُ الْفَسَادِ. وَالثَّانِي جَائِزٌ لَا شَيْءَ فِيهِ، فَلَا حَرَجَ عَلَى مَنْ يَغْبِطُ غَيْرَهُ فِي نِعْمَةٍ وَيَشْتَهِي لِنَفْسِهِ مِثْلَهَا مَا لَمْ يُحِبَّ زَوَالَهَا عَنْهُ وَلَمْ يَكْرَهْ دَوَامَهَا لَهُ؛ فَالْمُؤْمِنُ يَغْبِطُ، وَالْمُنَافِقُ يَحْسُدُ؛ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ مَالًا، فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللهُ حِكْمَةً، فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا» [أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ]. وَالْغِبْطَةُ قَرِيبَةٌ مِنَ التَّنَافُسِ فِي الْخَيْرِ أَوْ نَوْعٌ مِنْهُ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: ]وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ( [المطففين: 26]؛ أَيْ فِي الْجَنَّةِ وَنَعِيمِهَا؛ لِأَنَّ الْمُنَافَسَةَ طَلَبُ التَّشَبُّهِ بِالْأَفَاضِلِ مِنْ غَيْرِ إِدْخَالِ ضَرَرٍ عَلَيْهِمْ، وَالْحَسَدُ يُوقِعُ فِي الضَّرَرِ.
إِخْوَةَ الْإِيمَانِ:
إِنَّ لِلْحَسَدِ الْمَذْمُومِ أَسْبَابًا مُتَعَدِّدَةً، وَطَرَائِقَ وَدَوَاعِيَ كَثِيرَةً وَمُتَنَوِّعَةً، وَمِنْهَا: بُغْضُ الْحَاسِدِ وَعَدَاوَتُهُ لِلْمَحْسُودِ، فَيَتَأَلَّمُ مِنْ مَنْقَبَةٍ لَهُ تُشْكَرُ، فَيَتَوَلَّدُ مِنْ ذَلِكَ الْحِقْدُ الَّذِي يَحْمِلُ صَاحِبَهُ عَلَى التَّشَفِّي وَالِانْتِقَامِ، وَالسَّعْيِ بِكُلِّ سَبِيلٍ لِلْإِيقَاعِ بِالْمَحْسُودِ وَإِيذَائِهِ وَإِزَالَةِ ذَلِكَ الْإِنْعَامِ؛ عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «سَيُصِيبُ أُمَّتِي دَاءُ الْأُمَمِ» فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا دَاءُ الْأُمَمِ؟ قَالَ: «الْأَشَرُ، وَالْبَطَرُ، وَالتَّدَابُرُ، وَالتَّنَافُسُ فِي الدُّنْيَا، وَالتَّبَاغُضُ، وَالْبُخْلُ، حَتَّى يَكُونَ الْبَغْيُ، ثُمَّ يَكُونَ الْهَرْجُ» [أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَوَافَقَهُ الذَّهَبِيُّ]. وَقَالَ مُعَاوِيَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (كُلُّ النَّاسِ أَقْدِرُ عَلَى رِضَاهُ إِلَّا حَاسِدَ نِعْمَةٍ؛ فَإِنَّهُ لَا يُرْضِيهِ إِلَّا زَوَالُهَا)؛ وَلِذَلِكَ قِيلَ:
كُلُّ الْعَدَاوَاتِ قَدْ تُرْجَى إِمَاتَتُهَا إِلَّا عَدَاوَةَ مَنْ عَادَاكَ عَنْ حَسَدِ
وَمِنْ أَسْبَابِ الْحَسَدِ أَيْضًا: حُبُّ الرِّيَاسَةِ وَالْجَاهِ، فَيَعِزُّ عَلَيْهِ أَنْ يَتَمَيَّزَ عَلَيْهِ أَحَدٌ أَوْ يَفُوقَهُ بِفَضْلٍ وَمَنْقَبَةٍ؛ قَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: ]أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا ( [النساء:54].
وَمِنْهَا: الْخَوْفُ مِنْ فَوْتِ الْمَقَاصِدِ؛ كَتَحَاسُدِ الضَّرَائِر فِي التَّزَاحُمِ عَلَى مَقَاصِدِ الزَّوْجِيَّةِ، وَتَحَاسُدِ الْإِخْوَةِ فِي التَّزَاحُمِ عَلَى نَيْلِ الْمَنْزِلَةِ فِي قَلْبِ الْأَبَوَيْنِ، وَتَحَاسُدِ أَصْحَابِ الْمِهَنِ وَالْأَغْرَاضِ الْوَاحِدَةِ؛ كَأَرْبَابِ التِّجَارَاتِ بَيْنَهُمْ، وَأَصْحَابِ الصِّنَاعَاتِ وَالْمِهَنِ.
وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ فِي الْحَاسِدِ شُحٌّ بِالْفَضَائِلِ، وَبُخْلٌ بِالنِّعَمِ، وَتَدْنِيسُ النَّفْسِ بِالرَّذَائِلِ، فَيَسْخَطُ الْحَاسِدُ عَلَى اللَّهِ فِي قَضَائِهِ، وَيَحْسُدُ غَيْـرَهُ عَلَى مَا مَنَحَهُ مِنْ عَطَائِهِ، قَالَ تَعَالَى: ]وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ( [البقرة:109].
وَقَانَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ شَرَّ الْحَسَدِ وَالْحَاسِدِينَ، وَجَعَلَنَا مِنْ عِبَادِهِ الْأَنْقِيَاءِ الْمُتَّقِينَ، أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ؛ فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَا يَسْتَحِقُّ الْحَمْدَ سِوَاهُ، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ شَهَادَةً تُبَلِّغُ قَائِلَهَا مُبْتَغَاهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَمُصْطَفَاهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ وَالَاهُ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي خَلَقَكُمْ، وَاسْتَعِينُوا عَلَى طَاعَتِهِ بِمَا رَزَقَكُمْ.
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ:
إِنَّ لِلْحَسَدِ أَضْرَارًا جَسِيمَةً، وَعَوَاقِبَ وَآثَارًا وَخِيمَةً، وَمِنْ أَخْطَرِهَا: أَنَّ الْحَاسِدَ مُتَسَخِّطٌ عَلَى قَدَرِ اللَّهِ وَإِمْدَادِهِ، مُعْتَرِضٌ عَلَى نِعَمِ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَكُلُّ هَذَا يَنْقُصُ الْإِيمَانَ، وَقَدْ يَنْقُضُهُ؛ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُعْتَزِّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: (الْحَسَدُ دَاءُ الْجَسَدِ، وَالْحَاسِدُ مُغْتَاظٌ عَلَى مَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ، بَخِيلٌ بِمَا لَا يَمْلِكُهُ، طَالِبٌ مَا لَا يَجِدُهُ).
وَالْحَاسِدُ عَدُوُّ نِعْمَةِ اللهِ، وَعَدُوُّ عِبَادِهِ، مَمْقُوتٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ النَّاسِ، وَلَا يَسُودُ أَبَدًا؛ لِأَنَّ النَّاسَ لَا يُسَوِّدُونَ عَلَيْهِمْ إِلَّا مَنْ يُرِيدُ الْإِحْسَانَ إِلَيْهِمْ. وَالْحَسَدُ مَنْبَعُ الشُّرُورِ الْعَظِيمَةِ، وَمِفْتَاحُ الْعَوَاقِبِ الْوَخِيمَةِ؛ إِذْ يُورِثُ الْأَحْقَادَ وَالضَّغَائِنَ فِي الْقُلُوبِ، وَيُفْسِدُ الْمُجْتَمَعَاتِ، وَيُقَطِّعُ الْعَلَاقَاتِ، وَيُشِيعُ الْمَفَاسِدَ وَالْعُيُوبَ، وَيَجْلِبُ النِّقَمَ، وَيُزِيلُ النِّعَمَ؛ فَعَنْ ضَمْرَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا لَمْ يَتَحَاسَدُوا» [أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ]. وَلَيْسَ لِلْحَاسِدِ رَاحَةٌ، وَلَا لِرِضَاهُ غَايَةٌ؛ إِلَّا زَوَالُ النِّعْمَةِ عَنْ صَاحِبِهَا، وَلَيْسَ لَهُ إِلَّا حَسَرَاتُ النَّفْسِ وَسَقَامُ الْجَسَدِ، وَبُغْضُ النَّاسِ، مَعَ انْحِطَاطِ مَنْزِلَتِهِ، وَانْخِفَاضِ رُتْبَتِهِ، وَمُلَازَمَةِ الْخِذْلَانِ وَالْهَمِّ وَالْغَمِّ وَالنَّكَدِ. فَالْحَسَدُ-يَا عِبَادَ اللهِ- مُفْسِدٌ لِلدِّينِ وَالدُّنْيَا؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَجْتَمِعَانِ فِي قَلْبِ عَبْدٍ: الْإِيمَانُ وَالْحَسَدُ» [أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ].
أَيُّهَا الْـمُسْلِمُونَ:
إِذَا كَانَ الْحَسَدُ دَاءً؛ فَإِنَّ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءً، وَالْحَسَدُ يُعَالَجُ بِأُمُورٍ، مِنْهَا: أَنْ يَرْضَى الْمَرْءُ بِقَضَاءِ اللهِ، وَيَسْتَسْلِمَ لِمَا قَدَّرَهُ مَوْلَاهُ، فَمَعَايِشُ الْعِبَادِ وَأَرْزَاقُهُمُ الدُّنْيَوِيَّةُ بِيَدِ اللهِ، وَالْأُمُورُ تَجْرِي بِأَقْدَارِهِ النَّافِذَةِ، فَلَا يَرُدُّهَا حَسَدُ حَسُودٍ وَلَا حِقْدُ حَقُودٍ؛ قَالَ سُبْحَانَهُ: ]أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ( [الزخرف:32]. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: (مَنْ رَضِيَ بِقَضَاءِ اللهِ تَعَالَى لَمْ يَسْخَطْهُ أَحَدٌ، وَمَنْ قَنِعَ بِعَطَائِهِ لَمْ يَدْخُلْهُ حَسَدٌ). وَمِنَ الْأَدْوِيَةِ: أَنْ يَتَفَكَّرَ الْمَرْءُ فِي عَوَاقِبِ الْحَسَدِ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ الْحَسَدَ هَمٌّ دَائِمٌ عَلَى صَاحِبِهِ، وَغَمٌّ لَازِمٌ لِقَلْبِهِ، وَغُرْمٌ لِإِيمَانِهِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ يَتَلَظَّى بِنَارِهِ، وَيَتَأَذَّى بِسُعَارِهِ، وَقَدْ لَا يَتَأَذَّى الْمَحْسُودُ وَلَا يَدْرِي عَنْ حَاسِدِهِ، قَالَ مُعَاوِيَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (لَيْسَ فِي خِصَالِ الشَّرِّ أَعْدَلُ مِنَ الْحَسَدِ، يَقْتُلُ الْحَاسِدَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَى الْمَحْسُودِ)، وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: قُلْتُ لِأَعْرَابِيٍّ: مَا أَطْوَلَ عُمُرَكَ! قَالَ: تَرَكْتُ الْحَسَدَ فَبَقِيتُ. وَمِنَ الْأَدْوِيَةِ: الصَّبْرُ عَلَى حَسَدِ الْحَاسِدِ، وَالِاسْتِعَاذَةُ بِاللهِ مِنْ شَرِّ حَسَدِهِ، قَالَ تَعَالَى: ]وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ [ [الفلق: 5]، فَيَسْتَدْفِعُ بِالصَّبْرِ ضَرَرَهُ، وَيَتَوَقَّى بِالِاسْتِعَاذَةِ أَثَرَهُ.
عِبَادَ اللهِ:
وَمِمَّا يُدْفَعُ بِهِ الْحَسَدُ: التَّحَصُّنُ بِذِكْرِ اللهِ تَعالى، وَالْمُحَافَظَةُ عَلَى أَذْكَارِ الصَّبَاحِ وَالْمَسَاءِ وَغَيْرِهَا فِي أَوْقَاتِهَا وَمَوَارِدِهَا الْمُعَيَّنَةِ، وَالتَّبْرِيكِ إِذَا رَأَى مَا يُعْجِبُهُ مِنْ نَفْسِهِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ؛ عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مِنْ نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ أَخِيهِ مَا يُعْجِبُهُ؛ فَلْيَدْعُ بِالْبَرَكَةِ» [أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ وَغَيْرُهُمَا وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ].
وَمِنْهَا: أَنْ يُحْسِنَ الْإِنْسَانُ إِلَى الْحَاسِدِ وَيَتَوَاضَعَ لَهُ، فَطَالَمَا اسْتَعْبَدَ الْإِنْسَانَ إِحْسَانُ. وَأَنْ يَحْفَظَ اللهَ فِي أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ، فَمَنْ حَفِظَ اللهَ حَفِظَهُ اللهُ وَوَجَدَهُ أَمَامَهُ أَيْنَمَا تَوَجَّهَ. وَأَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْأُمُورَ مِنْ نَفْعٍ وَضَرٍّ بِيَدِ اللهِ تَعَالَى. وَأَنْ يَتَّخِذَ الْحَاسِدُ الْمُنَافَسَةَ الْمَحْمُودَةَ بَدَلًا مِنَ الْحَسَدِ الْمَذْمُومِ؛ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا، فَقَالَ: «يَا غُلَامُ، إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ، احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ؛ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ؛ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ» [أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ].
اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ مُحَمَّدٍ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَالْأَئِمَّةِ الْمَهْدِيِّينَ: أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدِينَا وَلِلْمُسْلِمِينَ؛ الْأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّـتِـينَ، وَاشْفِ مَرْضَانَا وَمَرْضَى الْمُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَأَذِلَّ الشِّرْكَ وَالْمُشْرِكِينَ، وَانْصُرْ عِبَادَكَ الْمُوَحِّدِينَ، وَاصْرِفْ عَنَّا كُلَّ شَرٍّ وَسُوءٍ فِي الدُّنْيَا وَالدِّينِ. اللَّهُمَّ وَفِّقْ أَمِيرَنَا وَوَلِيَّ عَهْدِهِ لِهُدَاكَ، وَاجْعَلْ عَمَلَهُمَا فِي رِضَاكَ، وَأَلْبِسْهُمَا ثَوْبَ الصِّحَّةِ وَالْعَافِيَةِ وَالْإِيمَانِ، يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، اللَّهُمَّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا مُطْمَئِنًّا سَخَاءً رَخَاءً وَسَائِرَ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
لجنة إعداد الخطبة النموذجية لصلاة الجمعة