خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 27 من ربيع الأول 1447هـ الموافق 19 /9 / 2025م
فَضْلُ سُورَةِ الْعَصْرِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي شَرَّفَنَا عَلَى الْأُمَمِ بِالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ، وَقَوَّمَ بِهِ نُفُوسَنَا بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ، أَحْمَدُهُ عَلَى التَّوْفِيقِ لِلتَّحْمِيدِ، وَأَشْكُرُهُ عَلَى نِعْمَةِ التَّوْحِيدِ، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، شَهَادَةً يَبْقَى ذُخْرُهَا عَلَى التَّأْبِيدِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَرْسَلَهُ رَبُّهُ بَشِيرًا لِلْخَلَائِق وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا، وَوَهَبَ لَهُ مِنْ فَضْلِهِ خَيْرًا كَثِيرًا، وَنَهَى أَنْ يُدْعَى بِاسْمِهِ تَعْظِيمًا لَهُ وَتَوْقِيرًا، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ وَأَزْوَاجِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا. ]يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [[الأحزاب: 70-71].
أَيُّهَا الْـمُسْلِمُونَ:
سُورَةٌ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ عَلَى قِصَرِ آيَاتِهَا، وَوَجَازَةِ أَلْفَاظِهَا؛ حَوَتْ مَعَانِيَ جَلِيلَةً وَاشْتَمَلَتْ عَلَى مَدْلُولَاتٍ عَمِيقَةٍ، هَذِهِ السُّورَةُ عَلَى قِلَّةِ أَلْفَاظِهَا رَسَمَتِ الْمَنْهَجَ الْكَامِلَ لِلْحَيَاةِ الْبَشَرِيَّةِ؛ وَلِهَذَا كَانَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يَتَّخِذُونَهَا شِعَارًا فِي مَجَالِسِهِمْ، وَيَسْتَوْصُونَ بِهَا عِنْدَ ذَهَابِهِمْ وَانْصِرَافِهِمْ، فَعَنْ أَبِي مَدِينَةَ الدَّارِمِيِّ، وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ، قَالَ: كَانَ الرَّجُلانِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا الْتَقَيَا لَمْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَقْرَأَ أَحَدُهُمَا عَلَى الآخَرِ: ] وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ [ [العصر:1-2]، ثُمَّ يُسَلِّمَ أَحَدُهُمَا عَلَى الآخَرِ. [رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الأَوْسَطِ وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانيُّ].
أَيُّهَا الْـمُسْلِمُونَ:
اسْتَفْتَحَ الْمَوْلَى هَذِهِ السُّورَةَ بِالْقَسَمِ فَقَالَ تَعَالَى: ] وَالْعَصْرِ[ وَالْقَسَمُ مِنْ أَسَالِيبِ التَّوْكِيدِ، وَهُوَ مُؤْذِنٌ بِأَهَمِّيَّةِ مَا بَعْدَهُ، وَالْمُقْسِمُ هُنَا رَبُّ الْعِزَّةِ وَالْجَلَالِ، فَلَه سُبْحَانَهُ أَنْ يُقْسِمَ بِنَفْسِهِ الْعَلِيَّةِ، قَالَ تَعَالَى: ]وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ [ [يونس:53] وَلَهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يُقْسِمَ بِمَا شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ، فَقَدْ قَالَ جَلَّ مِنْ قَائِلٍ كَرِيمٍ: ]وَالشَّمْسِ [ وَقَال: ]وَاللَّيْلِ [وَقَالَ هُنَا: ] وَالْعَصْرِ [ وَلَيْسَ لِخَلْقِهِ أَنْ يُقْسِمُوا إلَّا بِهِ سُبْحَانَهُ، فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ» [رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانِيُّ]. وَأَدَاةُ الْقَسَمِ هُنَا: الْوَاوُ، وَالْمُقْسَمُ بِهِ الْعَصْرُ، وَجَوَابُ الْقَسَمِ ] إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ [.
أَيُّهَا الْمُبَارَكُونَ:
أَقْسَمَ الْخَالِقُ سُبْحَانَهُ هُنَا بِالْعَصْرِ، وَهُوَ الدَّهْرُ، فَهَذَا الزَّمَانُ الَّذِي يَجْرِي وَالأُمَمُ الَّتِي تَرُوحُ وَتَأْتِي، هَذِهِ الْفُصُولُ الَّتِي تَتَعَاقَبُ وَالْمَرَاحِلُ الَّتِي تَنْثَالُ وَتَتَلَاحَقُ، لَيْلٌ يَعْقُبُهُ نَهَارٌ، وَنَهَارٌ يَخْلُفُهُ لَيْلٌ، هَذَا الزَّمَنُ بِمَاضِيهِ وَحَاضِرِهِ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ الْخَلَّاقِ الْعَلِيمِ.
وَأَرَى الزَّمَانَ سَفِينَةً تَجْرِي بِنَا نَحْوَ الْمَنُونِ وَلَا نَرَى حَرَكَاتِهِ
فَالزَّمَنُ الَّذِي يَقْطَعُهُ الْإِنْسَانُ فِي حَيَاتِهِ، وَتَقَعُ فِيهِ شَتَّى حَرَكَاتِه وَتَصَرُّفَاتِهِ، هُو مُسْتَوْدَعُ أَعْمَالِهِ وَمَحَلُّ كَسْبِهِ وَخُسْرَانِهِ، وَلِذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي جَوَابِ الْقَسَمِ: ]إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ [فَجِنْسُ الْإِنْسَانِ مُتَلَبِّسٌ بِالْخُسْرَانِ وَالنُّقْصَانِ لِغَلَبَةِ الأَهْوَاءِ وَالشَّهَوَاتِ، وَكَثْرَةِ الْمَطَامِعِ وَالرَّغَبَاتِ، وَعَلَى قَدْرِ مَا قَامَ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ مِنْ شَوَاهِدِ الْآخِرَةِ تَخَلَّصَ مِنْ إِسَارِ الدَّارِ الْفَانِيَةِ، وَسَمَا صُعُدًا إلَى الدَّارِ الْأَبَدِيَّةِ الْبَاقِيَةِ، فَنَجَا مِنَ الْخَسَارِ وَظَفِرَ بِرَكْبِ المُتَّقِينَ الْأَبْرَارِ.
أَيُّهَا الْـمُسْلِمُونَ:
أَقْسَمَ الْمَوْلَى جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ بِالْعَصْرِ، وَالْعَظِيمُ سُبْحَانَهُ لَا يُقْسِمُ بِشَيْءٍ إلَّا لِأَهَمِّيَّتِهِ وَشَرَفِهِ، فَإِدْرَاكُ قِيمَةِ الزَّمَنِ، وَمَعْرِفَةُ شَرَفِ الْوَقْتِ، يَبْعَثُ الْمُسْلِمَ عَلَى إنْفَاقِهِ فِيمَا يَعُودُ عَلَيْهِ بِالنَّفْعِ فِي دُنْيَاهُ وَأُخْرَاهُ، لَا سِيَّمَا وَأَنَّه مَسْؤُولٌ أَمَامَ اللَّهِ عَنْ وَقْتِهِ وَعُمُرِهِ، فَعَنْ أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ» [رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ]. وَمَتَى تَأَمَّلَ الْعَاقِلُ سُرْعَةَ انْقِضَاءِ الْأَعْمَارِ، وَانْفِرَاطَ عِقْدِ الزَّمَانِ بَادَرَ الدَّقَائِقَ وَالثَّوَانِيَ فَضْلًا عَنِ الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي، فَمِنَ الْغَبْنِ أَنْ تَرَى مَنْ يَمْكُثُ السَّاعَاتِ الطِّوَالَ عَلَى هَاتِفِهِ الذَّكِيِّ يُقَلِّبُ الشَّاشَاتِ هُنَا وَهُنَاكَ، وَبِسَاطُ الْعُمُرِ يَجْرِي وَفَحْمَةُ الشَّبَابِ تَمْضِي، وَمَتَى أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ خَيْرًا جَعَلَ لَهُ وَاعِظًا مِنْ نَفْسِهِ؛ يُنَبِّهُهُ إذَا غَفَلَ وَيُذَكِّرُهُ إذَا نَسِيَ، وَلِذَا فَإِنَّ أَقْسَى حِجَابٍ يُضْرَبُ عَلَى الْقَلْبِ حِجَابُ الْغَفْلَةِ، قَالَ اللَّهُ: ] وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ [ [الأعراف205].
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ:
لَمَّا أَثْبَتَ الْمَوْلَى الْخَسَارَ لِبَنِي الْإِنْسَانِ اسْتَثْنَى طَائِفَةً هُمُ الْأَقَلُّونَ عَدَدًا، الْأَعْظَمُونَ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً وَقَدْرًا، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: ] إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا [ [العصر:3] فَوَصَفَهُمْ بِالْإِيمَانِ، وَالْإِيمَانُ هُوَ الشَّجَرَةُ الْيَانِعَةُ الَّتِي تَتَدَلَّى مِنْهَا الثِّمَارُ الزَّاهِيَةُ، فَفُرُوعُ الْخَيْرِ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَقُومَ إِلَّا عَلَى سَاقِ الْإِيمَانِ، وَمَتَى خَلَا الْعَمَلُ مِنَ الْإِيمَانِ كَانَ؛ ] كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا [ [النور:39]؛ وَلِذَا قَرَنَ الْمَوْلَى هُنَا بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ فَقَال: ] إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [[العصر:3] فَالْإِيمَانُ الْحَقِيقِيُّ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ خَامِدًا أَوْ خَامِلًا، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يُتَرْجَمَ عَلَى الْجَوَارِحِ حَرَكَةً وَعَمَلًا، وَإِلَّا أَصْبَحَ مُجَرَّدَ أَمَانٍ وَدَعَاوَى.
أَيُّهَا الْـمُسْلِمُونَ:
إِنَّ هَذَا الدِّيْنَ قَدْ رَسَمَ مَنْهَجًا مُتَكَامِلًا لِبِنَاءِ مُجْتَمَعٍ يَعْمَلُ لِآخِرَتِهِ وَلَا يُهْمِلُ أَمْرَ دُنْيَاهُ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَصْلُحَ الْمُجْتَمَعُ إلَّا بِصَلَاحِ اللَّبِنَةِ الْأُولَى وَهُوَ الْفَرْدُ، وَمَتَى صَلَح الْفَرْدُ كَانَ نَبْعَ هِدَايَةٍ لِأُمَّتِهِ ومِشْعَلَ خَيْرٍ فِي بِنَاءِ مُجْتَمَعِهِ، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: ] وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ [[العصر:3] فَالْمُؤْمِنُ الْحَقُّ لَا يَنْطَوِي عَلَى نَفْسِهِ وَلَا يَنْزَوِي فِي مَكْنُونَاتِ الضَّمِيرِ، بَلْ يَقُودُهُ إيمَانُهُ الْكَامِنُ فِي صَدْرِهِ إلَى النُّهُوضِ بِالْحَقِّ مَهْمَا كَانَ عَسِيرًا، وَالتَّوَاصِي بِهِ مَهْمَا كَانَ ثَقِيلًا، فَالسَّائِرُ إلَى اللَّهِ تَعْتَرِيهِ مَصَاعِبُ وَعَقَبَاتٌ، وَتَعْتَرِضُ طَرِيقَهُ عَرَاقِيلُ وَمُعَوِّقَاتٌ، وَالْمُؤْمِنُ ضَعِيفٌ بِنَفْسِهِ قَوِيٌّ بِإِخْوَانِهِ، وَالتَّوَاصِي بِالْحَقِّ مِنْ صُوَرِ وِلَايَةِ الْمُؤْمِنِينَ: ] وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [ [التوبة:71].
أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ؛ فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ لِلَّهِ أَعْظَمَ لِلْمُتَّقِينَ الْعَامِلِينَ أُجُورَهُمْ، وَشَرَحَ بِالْهُدَى وَالْخَيْرَاتِ صُدُورَهُمْ، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَفَّقَ عِبَادَهُ لِلطَّاعَاتِ وَأَعَانَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ خَيْرُ مَنْ عَلَّمَ أَحْكَامَ الدِّينِ وَأَبَانَ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ. ]يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [ [آل عمران:102].
مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ:
لَمَّا كَانَ السَّيْرُ إلَى اللَّهِ يَحْتَاجُ إلَى جَلَدٍ وَحَزْمٍ خَتَمَ الْمَوْلَى هَذِهِ السُّورَةَ بِالْوَصِيَّةِ بِالصَّبْرِ، فَأَكْثَرُ السَّائِرِينَ إلَى اللَّهِ رُبَّمَا اسْتَطَالَوا الطَّرِيقَ فَرَجَعُوا عَلَى أَعْقَابِهِمْ وَنَكَصُوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ، وَالْعَبْدُ الْيَقِظُ هُوَ الَّذِي لَا يَشْغَلُهُ شَاغِلٌ عَنْ قِبْلَتِهِ، وَلَا يَصْرِفُهُ صَارِفٌ عَنْ قَصْدِهِ وَوِجْهَتِهِ، وَجَعَلَ دُنْيَاهُ مَطِيَّةً لِآخِرَتِهِ، فَأَدْرَكَ الْمَعِيَّةَ وَالْعِنَايَةَ وَلَبِسَ ثَوْبَ التَّوْفِيقِ وَالْوِلَايَةِ، رَوَى التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ: جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ. وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ: جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ».
فَاعْلَمْ أَيُّهَا الْمُوَفَّقُ: أَنَّ مَفَاوِزَ الدُّنْيَا لَا تُقْطَعُ إلَّا بِالصَّبْرِ بِأَنْوَاعِهِ الثَّلَاثَةِ: صَبْرٌ عَلَى الطَّاعَةِ، وَصَبْرٌ عَنِ الْمَعْصِيَةِ، وَصَبْرٌ عَلَى أَقْدَارِ اللَّهِ، وَالتَّوَاصِي بِالصَّبْرِ هُوَ مِنَ التَّوَاصِي بِالْحَقِّ لَكِنَّ اللَّهَ خَصَّهُ لِمَزِيدِ عِنَايَةٍ وَاهْتِمَامٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنِ الْعَبْدِ الصَّالِحِ لُقْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ] يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [[لقمان:17] فَحَمْلُ النَّفْسِ عَلَى الْقِيَامِ بِالْأَوَامِرِ وَاجْتِنَابِ النَّوَاهِي وَالزَّوَاجِرِ يَحْتَاجُ إلَى صَبْرٍ، وَأَفَادَتْ صِيغَةُ التَّوَاصِي بِالْحَقِّ وَبِالصَّبْرِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ دَيْدَنًا لِلْمُؤْمِنِينَ، وَدَأَبًا لِعِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، فَالْفِعْلُ (تَوَاصَوْا) مِنْ أَفْعَالِ الْمُشَارَكَةِ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ عَلَى وَزْنِ (تَفَاعَلَ) فَالْمُجْتَمَعُ يَسْتَشْعِرُ مَسْؤُولِيَّتَهُ تُجَاهَ أَفْرَادِهِ، فَإِذَا زَاغ أَحَدُهُمْ أَوْ حَادَ وَجَدَ مَنْ يَتَعَاهَدُهُ بِالنَّصِيحَةِ وَيُصَحِّحُ لَهُ طَرِيقَهُ، فَهَذِهِ السُّورَةُ تُعْتَبَرُ دُسْتُورًا رَبَّانِيًّا وَنِظَامًا تَشْرِيعِيًّا لِمَنْ رَامَ السَّلَامَةَ وَالنَّجَاةَ، فَحَرِيٌّ بِنَا أَنْ نَقِفَ عَلَى هِدَايَاتِهَا وَنَسْتَشِفَّ أَغْرَاضَهَا وَإِرْشَادَاتِهَا، فَمَعَ قِصَرِ آيَاتِهَا وَقِلَّةِ أَلْفَاظِهَا بَيَّنَتْ أُصُولَ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاءِ، وَبِهَذَا نَفْهَمُ قَوْلَ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ: (لَوْ لَمْ يُنْزِلِ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ حُجَّةً إلَّا هَذِهِ السُّورَةَ لَكَفَتْهُمْ).
اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَلْهِمْنَا شُكْرَ نِعْمَتِكَ، وَدَوَامَ عَافِيَتِكَ، وَجَنِّبْنَا فُجَاءَةَ نِقْمَتِكَ وَجَمِيعَ سَخَطِكَ، وَبَارِكِ اللَّهُمَّ لَنَا فِي أَوْقَاتِنَا وَأَمْوَالِنَا، وَأَوْلَادِنَا وَأَزْوَاجِنَا، وَاغْفِرِ اللَّهُمَّ لَنَا وَلِوَالِدِينَا وَلِلْمُسْلِمِينَ أَجْمَعِينَ، اللَّهُمَّ وَفِّقْ أَمِيرَنَا وَوَلِيَّ عَهْدِهِ لِهُدَاكَ، وَاجْعَلْ عَمَلَهُمَا فِي رِضَاكَ، وَأَلْبِسْهُمَا ثَوْبَ الصِّحَّةِ وَالْعَافِيَةِ وَالْإِيمَانِ، يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، اللَّهُمَّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا مُطْمَئِنًّا سَخَاءً رَخَاءً وَسَائِرَ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
لجنة إعداد الخطبة النموذجية لصلاة الجمعة