خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 13 من ربيع الأول 1447هـ الموافق 5 /9 / 2025م
مَحَبَّةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الِاتِّبَاعِ والِابْتِدَاعِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَصَّنَا بِخَيرِ رُسُلِهِ، وَأَنْزَلَ عَلَيْنَا أَكْرَمَ كُتُبِهِ، وَشَرَعَ لَنَا أَكْمَلَ شَرَائِعِهِ، أَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ وَأَشْكُرُهُ، لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْهِ، أَكْمَلَ لَنَا الدِّينَ، وَأَتَمَّ عَلَيْنَا النِّعْمَةَ، فَقَالَ جَلَّ مِنْ قَائِلٍ كَرِيمٍ: ] الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا [ [المائدة:3]، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ( [الأحزاب:70- 71]
أَيُّهَا الْـمُسْلِمُونَ:
إنّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ اصْطَفَى نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرِسَالَتِه، وَخَصَّه بِمَزِيدِ فَضْلِهِ وَمِنَّتِه، وَأَوْجَبَ عَلَى الْخَلْقِ طَاعَتَه، وَأَلْزَمَهُمْ تَوْقِيرَهُ وَمَحَبَّتَه، فَمَحَبَّتُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى مَحَبَّةِ الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ، بَلْ عَلَى النَّفْسِ وَالْمُهْجَة، فَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» [مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ].
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هِشَامٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ». فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: فَإِنَّهُ الآنَ وَاللَّهِ، لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الآنَ يَا عُمَرُ» [رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ].
أَيُّهَا الْمُبَارَكُونَ:
إنّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَحَبُّوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَحَبَّةً صَادِقَةً، قَدْ مَلَكَتْ عَلَيْهِمْ أَسْمَاعَهُمْ وَأَبْصَارَهُم، وَبَذَلُوا مِنْ أَجْلِهَا أَرْوَاحَهُمْ وَدِمَاءَهُمْ، فَمَحَبَّتُهُمْ لَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَحَبَّةٌ صَادِقَةٌ، لَيْسَتْ كَتِلْكَ الدَّعَاوَى الْفَارِغَة.
وَالدَّعَاوَى إنْ لَمْ تَكُنْ عَلَيْهَا بَيِّنَاتٌ أَصْحَابُهَا أَدْعِيَاءُ؛ فَهَذَا أَبُو بَكْرٍ t فِي حَادِثَةِ الْهِجْرَةِ لَمَّا اشْتَدَّ الطَّلَبُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَكَى أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَقَالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لِمَ تَبْكِي يا أبا بكر؟» قُلْتُ: أَمَا وَاللَّهِ مَا عَلَى نَفْسِي أَبْكِي، وَلَكِنْ أَبْكِي عَلَيْكَ. [رَوَاهُ أَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانِيُّ].
وَفِي يَوْمِ أُحُدٍ لَمَّا دَارَتْ الدَّائِرَةُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَأَصْبَحَتْ الْغَلَبَةُ لِلْمُشْرِكِينَ، ثَبَتَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ وَطْأَةِ الْمُشْرِكِينَ وَانْحِسَارِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، لاَ تُشْرِفْ، يُصِيبُكَ سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ القَوْمِ، نَحْرِي دُونَ نَحْرِكَ) [رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ].
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ:
إنّ مِنْ عَلَامَاتِ مَحَبَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِيمَانَ بِهِ وَتَصْدِيقَهُ فِيمَا أَخْبَرَ، وَطَاعَتَهُ فِيمَا أَمَرَ، وَهَذَا مُقْتَضَى شَهَادَةِ أَنّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ تَعَالَى: ] فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [ [التغابن:8].
وَمِنْ دَلَائِلِ مَحَبَّتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَوْقِيرُه حَيًّا وَمَيْتًا، وَتَوْقِيرُ سُنَّتِه، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ]إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ [ [الفتح:8-9]. وَقَالَ سُبْحَانَهُ: ] فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [ [الأعراف:157]. قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: (التَّعْزِيرُ: اسْمٌ جَامِعٌ لِنَصْرِهِ وَتَأْيِيدِهِ، وَمَنْعِهِ مِنْ كُلِّ مَا يُؤْذِيهِ، وَالتَّوْقِيرُ: اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا فِيهِ سَكِينَةٌ وَطُمَأْنِينَةٌ مِنَ الْإِجْلَالِ وَالْإِكْرَامِ، وَأَنْ يُعَامَلَ مِنَ التَّشْرِيفِ وَالتَّكْرِيمِ وَالتَّعْظِيمِ بِمَا يَصُونُهُ عَنْ كُلِّ مَا يُخْرِجُهُ عَنْ حَدِّ الْوَقَارِ).
وَمِنْ دَلَائِلِ الْمَحَبَّة: التَّعَرُّفُ عَلَى سِيرَتِهِ وَطَرِيقَتِه، وَالتَّأَمُّلُ فِي أَخْلَاقِهِ وَطِبَاعِه، قَالَ تَعَالَى: ]لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [ [الأحزاب:21]. قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللَّهُ -: (هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ أَصْلٌ كَبِيرٌ فِي التَّأَسِّي بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَحْوَالِهِ).
وَمِنْ دَلَائِلِ مَحَبَّتِه: نَشْرُ سُنَّتِهِ، وَالذَّبُّ عَنْهَا وَالْغَيْرَةُ عَلَيْهَا، فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَمْنَعَنَّ رَجُلٌ أَهْلَهُ أَنْ يَأْتُوا الْمَسَاجِدَ». فَقَالَ ابْنٌ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: فَإِنَّا نَمْنَعُهُنَّ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: (أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَقُولُ هَذَا)! فَمَا كَلَّمَهُ عَبْدُ اللَّهِ حَتَّى مَاتَ. [رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَحْمَدُ وَاللَّفْظُ لَهُ].
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا يَخْذِفُ، فَقَالَ لَهُ: لَا تَخْذِفْ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الخَذْفِ، وَقَالَ: «إِنَّهُ لَا يُصَادُ بِهِ صَيْدٌ، وَلَا يُنْكَى بِهِ عَدُوٌّ، وَلَكِنَّهَا قَدْ تَكْسِرُ السِّنَّ، وَتَفْقَأُ العَيْنَ». ثُمَّ رَآهُ بَعْدَ ذَلِكَ يَخْذِفُ، فَقَالَ لَهُ: أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنِ الخَذْفِ، وَأَنْتَ تَخْذِفُ! لَا أُكَلِّمُكَ كَذَا وَكَذَا. [رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ].
أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ؛ فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَهُ الْحَمْدُ الْحَسَنُ وَالثَّنَاءُ الْجَمِيلُ، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ-؛ وَاعْلَمُوا أَنَّ تَقْوَى اللهِ أَمْثَلُ طَرِيقٍ وَأَقْوَمُ سَبِيلٍ.
أَيُّهَا الْـمُسْلِمُونَ:
إنّ عُنْوَانَ الْمَحَبَّةِ الْأَعْظَمَ، وَبَابَهَا الْأَفْخَمَ: الطَّاعَةُ وَالِانْقِيَادُ، وَالْإِذْعَانُ وَالِامْتِثَالُ، قَالَ تَعَالَى: ]قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [ [آل عمران:31]. قَالَ العَلَّامَةُ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: (هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ حَاكِمَةٌ عَلَى كُلِّ مَنِ ادَّعَى مَحَبَّةَ اللَّهِ وَلَيْسَ هُوَ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ، فَإِنَّهُ كَاذِبٌ فِي دَعْوَاهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ حَتَّى يَتَّبِعَ الشَّرْعَ الْمُحَمَّدِيَّ وَالدِّينَ النَّبَوِيَّ فِي جَمِيعِ أَقْوَالِهِ وأَفْعَالِهِ وَأَحْوَالِهِ).
فَالْمَحَبَّةُ إذًا لَيْسَتْ بِالْإِحْدَاثِ وَالِابْتِدَاع، وَإِنَّمَا بِالِامْتِثَالِ وَالِاتِّبَاع، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ] وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [ [الأنعام:153]. قَالَ مُجَاهِد -رَحِمَهُ اللهُ- فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ] وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ [ قَالَ: (الْبِدَعَ وَالشُّبُهَاتِ).
فَمَحَبَّةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَكُونُ بِالْغُلُوِّ فِيهِ، وَالِاسْتِغَاثَةِ بِهِ، وَإِقَامَةِ الْمَوَالِدِ وَالِاحْتِفَالَاتِ، وَتَزْيِينِ الدُّورِ بِالْأَقْوَالِ وَالشِّعَارَاتِ، فَالصَّحَابَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَهُمْ أَعْظَمُ جِيلٍ وَأَفْضَلُ رَعِيل، لَمْ يَحْفِلُوا بِهَذَا الْمَوْعِد، وَلَمْ يَحْتَفِلُوا بِيَوْمِ الْمَوْلِد، وَلَوْ كَانَ خَيْرًا لَسَبْقُونَا إلَيْه.
ثُمَّ هَلْ تَعْلَمُ أَيُّهَا الْمُوَفَّقُ أَنَّ أَوَّلَ مَنِ ابْتَدَعَ الِاحْتِفَالَ بِالمَوْلِدِ هُمْ مُلُوكُ الدَّوْلَةِ الْفَاطِمِيَّةِ فِي الْقَرْنِ الرَّابِعِ الْهِجْرِيّ، أَدْعِيَاءِ النَّسَبِ النَّبَوِيِّ الشَّرِيفِ، وَإِلَّا فَهُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَيْمُونٍ الْقَدَّاحِ الْيَهُودِيِّ الْبَاطِنِيِّ، وَكَانَ سَيِّدُهُمْ وَقَائِدُ مَمْلَكَتِهِمْ الَّذِي تَسَمَّى زُورًا وَبُهْتَانًا (الْحَاكِمَ بِأَمْرِ اللَّهِ) الَّذِي ادَّعَى الْأُلُوهِيَّةَ فِي نِهَايَةِ أَمْرِه، وَأَسَّسَ جُمْلَةً مِنَ الْمَذَاهِبِ الْبَاطِنِيَّة.
وَالْخُلَاصَةُ: أَنَّ بِدْعَةَ الْمَوْلِدِ نَشَأَتْ مِنْ هَهُنَا، وَهَلْ يَقُولُ عَاقِلٌ: إنَّ هَؤُلَاءِ الزَّنَادِقَةَ الْمُلْحِدِينَ قَدْ اهْتَدَوْا إلَى شَيْءٍ مِنَ الْحَقِّ لَمْ يَعْرِفْهُ الصِّدِّيقُ وَلَا الْفَارُوقُ وَلَا سَائِرَُ الصَّحَابَةِ وَأَئِمَّةِ السَّلَفِ؟ قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ -رَحِمَهُ اللَّهُ- عَنْ بِدْعَةِ الْمَوْلِد: (فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَفْعَلْهُ السَّلَفُ مَعَ قِيَامِ الْمُقْتَضِي لَهُ وَعَدَمِ الْمَانِعِ مِنْهُ، وَلَوْ كَانَ هَذَا خَيْرًا مَحْضًا أَوْ رَاجِحًا لَكَانَ السَّلَفُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَحَقَّ بِهِ مِنَّا؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَشَدَّ مَحَبَّةً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَعْظِيمًا لَهُ مِنَّا، وَهُمْ عَلَى الْخَيْرِ أَحْرَصُ، وَإِنَّمَا كَمَالُ مَحَبَّتِهِ وَتَعْظِيمِهِ فِي مُتَابَعَتِهِ وَطَاعَتِهِ، وَاتِّبَاعِ أَمْرِهِ وَإِحْيَاءِ سُنَّتِهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا، وَنَشْرِ مَا بُعِثَ بِهِ، وَالْجِهَادِ عَلَى ذَلِكَ بِالْقَلْبِ وَالْيَدِ وَاللِّسَانِ).
فَاحْذَرُوا -عِبَادَ اللَّهِ- مِنَ الْبِدَعِ وَالْمُحْدَثَاتِ! فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ، جَاءَ رَجُلٌ إِلَى مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ -رَحِمَهُ اللَّهُ- فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّه، مِنْ أَيْنَ أُحْرِمُ؟ فَقَالَ الإمامُ مالكٌ: مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ حَيْثُ أَحْرَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ الرَّجُلُ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُحْرِمَ مِنَ الْمَسْجِدِ. فَقَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ: لَا تَفْعَلْ، فَإِنِّي أَخْشَى عَلَيْك الْفِتْنَةَ. فَقَالَ الرَّجُلُ: وَأَيُّ فِتْنَةٍ هَذِهِ؟ إنَّمَا هِيَ أَمْيَالٌ أَزِيدُهَا، فَقَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ: وَأَيُّ فِتْنَةٍ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تَرَى أَنَّك سَبَقْتَ إلَى فَضِيلَةٍ قَصَّرَ عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! إِنِّي سَمِعْتُ اللَّهَ يَقُولُ: ]فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [ [النور:63]).
اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى صَاحِبِ الْوَجْهِ الْأَنْوَر، وَالْجَبِينِ الْأَزْهَر، مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الله، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ الْغُرَر، وَمَنْ سَارَ عَلَى هَدْيِهِمْ إِلَى يَوْمِ الْمَحْشَر.
فَاللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالْعَفَافَ وَالْغِنَى، اللَّهُمَّ اهْدِنَا وَسَدِّدْنَا، اللَّهُمَّ ثَقِّلْ مَوَازِينَنَا وَوَالِدِينَا بِالْحَسَنَاتِ، وَاجْعَلْنَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لَنَا دِينَنَا الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا دُنْيَانَا الَّتِي فِيهَا مَعَاشُنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا آخِرَتَنَا الَّتِي فِيهَا مَعَادُنَا، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لَنَا فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَالْمَوْتَ رَاحَةً لَنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ. اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِالْيَهُودِ الْغَاصِبِينَ، وَانْتَقِمْ مِنَ الصَّهَايِنَةِ الْمُجْرِمِينَ، وَرُدَّ الْأَقْصَى الْجَرِيحَ إِلَى حَوْزَةِ الْمُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ كُنْ لِأَهْلِنَا فِي فِلَسْطِينَ نَاصِرًا وَمُعِينًا، احْقِنْ دِمَاءَهُمْ، وَاحْفَظْ أَعْرَاضَهُمْ، وَأَيِّدْهُمْ بِتَأْيِيدٍ مِنْ عِنْدِكَ، وَرُدَّ كَيْدَ أَعْدَائِهِمْ فِي نُحُورِهِمْ، اللَّهُمَّ وَفِّقْ أَمِيرَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، وَاجْمَعْ كَلِمَتَهُمْ عَلَى الْحَقِّ وَالتَّقْوَى، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاهْدِهِمْ سُبُلَ السَّلَامِ، وَانْفَعْ بِهِمُ الْبِلَادَ وَالْعِبَادَ، اللَّهُمَّ وَاجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً مُطْمَئِنًّا، سَخَاءً رَخَاءً، دَارَ عَدْلٍ وَإِيمَانٍ، وَأَمْنٍ وَأَمَانٍ، وَسَائِرَ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
لجنة إعداد الخطبة النموذجية لصلاة الجمعة